فصل: تفسير الآية رقم (11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً‏}‏ إخبار بحالهم المستقبلة وهو عدم تمنيهم الموت، وذلك خاص على ما صرح به جمع بأولئك المخاطبين، وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه» فلم يتمنه أحد منهم وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه الصلاة والسلام فعلموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد، وهذه إحدى المعجزات، وجاء نفي هذا التمني في آية أخرى بلن وهو من باب التفنن على القول المشهور في أن كلا من لا ولن لنفي المستقبل من غير تأكيد، ومن قال‏:‏ بإفادة لن التأكيد فوجه اختصاص التوكيد عنده بذلك الموضع أنهم ادعوا الاختصاص دون الناس في الموضعين، وزادوا هنالك أنه أمر مكشوف لا شبه فيه محققة عند الله فناسب أن يؤكد ما ينفيه، والباء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ سببية متعلقة بما يدل عليه النفي أي يأبون التمني بسبب ما قدمت، وجوز تعلقه بالانتفاء كأنه قيل‏:‏ انتفى تمنيهم بسبب ما قدمت كما قيل ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 2‏]‏ والمراد بما قدمته أيديهم الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار، ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفعاله عبر بها تارة عن النفس‏.‏ وأخرى عن القدرة‏.‏

‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏ أي بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون في كل ما يأتون ويذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل، والجملة تذييل لما قبلها مقررة لما أشار إليه من سوء أفعالهم واقتضائها العذاب أي والله تعالى عليم بما صدر منهم من فنون الظلم والمعاصي وبما سيكون منهم فيجازيهم على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ‏}‏ ولا تجسرون على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم‏.‏

‏{‏فَإِنَّهُ ملاقيكم‏}‏ البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والجملة خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول، فإن الصفة والموصوف كالشيء الواحد، فلا يقال‏:‏ إن الفاء إنما تدخل الخبر إذا تضمن المبتدأ معنى الشرط، والمتضمن له الموصول وليس بمبتدأ، ودخولها في مثل ذلك ليس بلازم كدخولها في الجواب الحقيقي، وإنما يكون لنكتة تليق بالمقام وهي ههنا المبالغة في عدم الفوت، وذلك أن الفرار من الشيء في مجرى العادة سبب الفوت عليه فجىء بالفاء لإفادة أن الفرار سبب الملاقاة مبالغة فيما ذكر وتعكيساً للحال، وقيل‏:‏ ما في حيزها جواب من حيث المعنى على معنى الإعلام فتفيد أن الفرار المظنون سبباً للنجاة سبب للإعلام بملاقاته كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏ وهو وجه ضعيف فيما نحن فيه لا مبالغة فيه من حيث المعنى؛ ومنع قوم منهم الفراء دخول الفاء في نحو هذا، وقالوا‏:‏ هي ههنا زائدة، وجوز أن يكون الموصول خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ والفاء عاطفة كأنه قيل‏:‏ إن الموت هو الشيء الذي تفرون منه فيلاقيكم‏.‏

وقرأ زيد بن علي إنه ملاقيكم بدون فاء، وخرج على أن الخبر هو الموصول وهذه الجملة مستأنفة أو هي الخبر والموصول صفة كما في قراءة الجمهور، وجوز أن يكون الخبر ‏{‏ملاقيكم‏}‏ وإنه توكيداً لأن الموت، وذلك أنه لما طال الكلام أكد الحرف مصحوباً بضمير الاسم الذي لأن، وقرأ ابن مسعود تفرون منه ملاقيكم بدون الفاء ولا إنه وهي ظاهرة ‏{‏ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ الذي لا يخفى عليه خافية‏.‏

‏{‏فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ من الكفر والمعاصي بأن يجازيكم بها، واستشعر غير واحد من الآية ذم الفرار من الطاعون، والكلام في ذلك طويل، فمنهم من حرمه كابن خزيمة فإنه ترجم في صحيحه باب الفرار من الطاعون من الكبائر وأن الله تعالى يعاقب من وقع منه ذلك ما لم يعف عنه، واستدل بحديث عائشة «الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف» رواه الإمام أحمد‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن عدي‏.‏ وغيرهم، وسنده حسن‏.‏

وذكر التاج السبكي أن الأكثر على تحريمه، ومنهم من قال‏:‏ بكراهته كالإمام مالك، ونقل القاضي عياض‏.‏ وغيره جواز الخروج عن الأرض التي يقع بها عن جماعة من الصحابة منهم أبو موسى الأشعري‏.‏ والمغيرة بن شعبة، وعن التابعين منهم الأسود بن هلال‏.‏ ومسروق، وروى الإمام أحمد‏.‏

والطبراني أن عمرو بن العاص قال في الطاعون في آخر خطبته‏:‏ إن هذا رجز مثل السيل من تنكبه أخطأه ومثل النار من تنكبها أخطأها ومن أقام أحرقته، وفي لفظ إن هذا الطاعون رجس فتفرقوا منه في الشعاب وهذه الأودية فتفرقوا فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فلم ينكره ولم يكرهه، وعن طارق بن شهاب قال‏:‏ كنا نتحدث إلى أبي موسى اوشعري وهو في داره بالكوفة فقال لنا وقد وقع الطاعون‏:‏ لا عليكم أن تنزحوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم حتى يرفع هذا الوباء فإني سأخبركم بما يكره من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه فإذا لم يظن هذا فلا عليه أن يخرج ويتنزه عنه‏.‏

وأخرج البيهقي‏.‏ وغيره عنه بسند حسن أنه قال‏:‏ إن هذا الطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل واحذروا اثنتين أن يقول قائل‏:‏ خرج خارج فسلم‏.‏ وجلس جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان ولو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان، ويفهم أنه لا بأس بالخروج مع اعتقاد أن كل مقدر كائن، وكأني بك تختار ذلك، لكن في فتاوى العلامة ابن حجر أن محل النزاع فيما إذا خرج فاراً منه مع اعتقاد أنه لو قدر عليه لأصابه وأن فراره لا ينجيه لكن يخرج مؤملاً أن ينجو أما الخروج من محله بقصد أن له قدرة على التخلص من قضاء الله تعالى وأن فعله هو المنجي له فواضح أنه حرام بل كفر اتفاقاً‏.‏

وأما الخروج لعارض شغل أو للتداوي من علة طعن فيه أو غير ذلك فهو مما لا ينبغي أن يختلص في جوازه كما صرح به بعض المحققين، ومن ذلك فيما أرى عروض وسوسة طبيعية له لا يقدر على دفعها تضر به ضرراً بيناً وغلبة ظن عدم دفنه أو تغسيله إذا مات في ذلك المحل قيل‏:‏ ولا يقاس على الفرار من الطاعون الفرار من غيره من المهالك فإنه مأمور به؛ وقد قال الجلال السيوطي‏:‏ الفرار من الوباء كالحمى ومن سائر أسباب الهلاك جائز بالإجماع، والطاعون مستثنى من عموم المهالك المأمور بالفرار منها للنهي التحريمي أو التنزيهي عن الفرار منه‏.‏ واختلفوا في علة النهي فقيل‏:‏ هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلاً عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيد الفرار منه بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا، وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء، واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع من فيه بمداخلة سببه ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا وإن أقام مع أنهم جوزوا الفرار منه، وقيل‏:‏ هي أن الناس لو تواردوا على الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم، وأيضاً في خروج الأقوياء كسراً لقلوب الضعفاء عن الخروج، وأيضاً إن الخارج يقول‏:‏ لو لم أخرج لمت، والمقيم‏:‏ لو خرجت لسلمت فيقعان في اللو المنهي عنه، واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء أيضاً، وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة الذي أعيا الأطباء علاجه ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على الوجه المعروف في الطاعون، وقيل‏:‏ هي إن للميت به وكذا للصابر المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به أجر شهيد، وفي الفرار إعراض عن الشهادة وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض، واعترض بأنه قد صح أنه صلى الله عليه وسلم مر بحائط مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك‏.‏ وكذا من الفرار من الحريق مع أن الميت بذلك شهيد أيضاً، وذهب بعض العلماء إلى أن النهي تعبدي وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له عن الطعن قال ذلك، ولهم في هذه المسألة رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فيها فليرجع إليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة‏}‏ أي فعل النداء لها أي الأذان، والمراد به على ما حكاه في الكشاف الأذان عند قعود الإمام على المنبر‏.‏ وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل عليه الصلاة والسلام أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر‏.‏ وعمر على ذلك حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذناً آخر فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه‏.‏

وفي حديث الجماعة إلا مسلماً فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، وفي رواية للبخاري‏.‏ ومسلم زاد النداء الثاني، والكل بمعنى، وتسمية ما يفعل من الأذان أولاً ثانياً باعتبار أنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان بعد، وتسميته ثالثاً لأن الإقامة تسمى أذاناً كما في الحديث ‏"‏ بين كل أذانين صلاة ‏"‏ وقال مفتي الحنفية في دار السلطنة السنية الفاضل سعد الله جلبي‏:‏ المعتبر في تعلق الأمر يعني قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏فاسعوا‏}‏ هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الإعلام به لا الأذان بين يدي المنبر، ورد بأن الأول لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعت فكيف يقال‏:‏ المراد الأول في الأصح، وأما كون الثاني لا إعلام فيه فلا يضر لأن وقته معلوم تخميناً ولو أريد ما ذكر وجب بالأول السعي وحرم البيع وليس كذلك‏.‏

وفي كتاب الأحكام روي عن ابن عمر‏.‏ والحسن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا نُودِىَ‏}‏ الخ قال‏:‏ إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة انتهى، وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره كذا قال الخفاجي‏.‏

وفي كتب الحنفية خلافه ففي الكنز وشرحه‏:‏ ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْمَلُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة‏}‏ الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به، وهذا القول هو الصحيح في المذهب، وقيل‏:‏ العبرة للأذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في زمنه إلا هو وهو ضعيف لأنه لو اعتبر في وجوب السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن الاستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى، ونحوه كثير لكن الاعتراض عليه قوي فتدبر ‏{‏مِن يَوْمِ الجمعة‏}‏ أي فيه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الارض‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 40‏]‏ أي فيها، وجوز أبو البقاء أيضاً كون ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض، وفي «الكشاف» هي بيان لإذا وتفسير له، والظاهر أنه أراد البيان المشهور فأورد عليه أن شرط ‏{‏مِنْ‏}‏ البيانية أن يصح حمل ما بعدها على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأن يوم الجمعة علم لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا؛ وقيل‏:‏ أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذ فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في، وكونها للتبعيض وهو كما ترى‏.‏

والجمعة بضم الميم وهو الأفصح، والأكثر الشائع، وبه قرأ الجمهور‏.‏ وقرأ ابن الزبير‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ والأعمش بسكونها، وروي عن أبي عمرو وهو لغة تميم وجاء فتحها ولم يقرأ به، ونقل بعضهم الكسر أيضاً، وذكروا أن الجمعة بالضم مثل الجمعة بالإسكان‏.‏ ومعناه المجموع أي يوم الفوج المجموع كقولهم‏:‏ ضحكة للضحوك منه، وأما الجمعة‏:‏ بالفتح فمعناه الجامع أي يوم الوقت الجامع كقولهم‏:‏ ضحكة لكثير الضحك، وقال أبو البقاء‏:‏ الجمعة بضمتين وبإسكان الميم مصدر بمعنى الاجتماع‏.‏

وقيل‏:‏ في المسكن هو بمعنى المجتمع فيه كرجل ضحكة أي كثير الضحك منه انتهى، وقد صار يوم الجمعة علماً على اليوم المعروف من أيام الأسبوع، وظاهر عبارة أكثر اللغويين أن الجمعة وحدها من غير يوم صارت علماً له ولا مانع منه، وإضافة العام المطلق إلى الخاص جائزة مستحسنة فيما إذا خفي الثاني كما هنا لأن التسمية حادثة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى فليست قبيحة كالإضافة في إنسان زيد، وكانت العرب على ما قال غير واحد تسمى يوم الجمعة عروبة، قيل‏:‏ وهو علم جنس يستعمل بأن وبدونها؛ وقيل‏:‏ أل لازمة، قال الخفاجي‏:‏ والأول أصح‏.‏

وفي النهاية لابن الأثير عروبة اسم قديم للجمعة، وكأنه ليس بعربي يقال‏:‏ يوم عروبة‏.‏ ويوم العروبة، والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام انتهى، وما ظنه من أنه ليس بعربي جزم به مختصر كتاب التذييل والتكميل مما استعمل من اللفظ الدخيل لجمال الدين عبد الله بن أحمد الشهير بالشيشي فقال‏:‏ عروبة منكراً ومعرفاً هو يوم الجمعة اسم سرياني معرب، ثم قال‏:‏ قال السهيلي‏:‏ ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم انتهى وهو غريب فليحفظ‏.‏

وأول من سماه جمعة قيل‏:‏ كعب بن لؤي، وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عن ابن سيرين قال‏:‏ جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار‏:‏ لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام‏.‏ وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره، فقالوا‏:‏ يوم السبت لليهود‏.‏ ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا منها وذلك لعامتهم؛ فأنزل الله تعالى في ذلك بعد ‏{‏تَعْمَلُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة‏}‏ الآية، وكون أسعد هذا أول من جمع مروى عن غير ابن سيرين أيضاً، أخرج أبو داود‏.‏

وابن ماجه‏.‏ وابن حبان‏.‏ والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت‏:‏ يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو‏؟‏ قال‏:‏ لأنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات من حرة بني بياضة قلت‏:‏ كم كنتم يومئذٍ‏؟‏ قال‏:‏ أربعون رجلاً، وظاهر قول ابن سيرين‏:‏ فأنزل الله تعالى في ذلك بعد ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الخ أن أسعد أقام الجمعة قبل أن تفرض، وكذا قوله‏:‏ جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، وفي «فتح القدير» التصريح بذلك، وقال العلامة ابن حجر في «تحفة المحتاج»‏:‏ فرضت يعني صلاة الجمعة بمكة ولم نقم بها لفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وكان صلى الله عليه وسلم بها مستخفياً، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة انتهى، فلعلها فرضت ثم نزلت الآية كالوضوء للصلاة فإنه فرض أولاً بمكة مع الصلاة ثم نزلت آيته لكن يعكر على هذا ما أخرجه ابن ماجه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال‏:‏ ‏"‏ إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها استخفافاً بها أو جحوداً بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه ‏"‏ فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير إذ ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام فيه‏:‏ ‏"‏ لا حج له ‏"‏ أن الحج كان مفروضاً إذا ذاك، وهو وإن اختلف في وقت فرضه فقيل‏:‏ فرض قبل الهجرة، وقيل‏:‏ أول سنيها، وقيل‏:‏ ثانيها، وهكذا إلى العاشرة لكن قالوا‏:‏ إن الأصح أنه فرض في السنة السادسة فإما أن يقدح في صحة الحديث، وإما أن يقال‏:‏ مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة أي بهذا القيد، ويقال‏:‏ إن الحاصل قبل افتراضها غير مقيد بهذا القيد ثم ما تقدم من كون أسعد أول من جمع بالمدينة يخالفه ما أخرج الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري قال‏:‏ أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب ابن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمع بهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلاً‏.‏

وأخرج البخاري على ما نقله السيوطي نحوه وكان ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال‏:‏ أذن النبي عليه الصلاة والسلام بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب بن عمير‏:‏ أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور فأجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين قال‏:‏ فهو أول من جمع حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك فلعل ما يدل على كون أسعد أول من جمع أثبت من هذه الأخبار أو يجمع بأن أسعد أول من أقامها بغير أمر منه صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه خبر ابن سيرين، وصرح به ابن الهمام‏.‏ ومصعباً أول من أقامها بأمره عليه الصلاة والسلام، أو بأن مصعباً أول من أقامها في المدينة نفسها وأسعد أول من أقامها في قرية قرب المدينة، وقولهم‏:‏ في المدينة تسامح، وقال الحافظ ابن حجر‏:‏ يجمع بين الحديثين بأن أسعد كان أميراً، ومصعباً كان إماماً وهو كما ترى، ولم يصرح في شيء من الأخبار التي وقفت عليها فيمن أقامها قبل الهجرة بالمدينة بالخطبة التي هي أحد شروطها، وكأن في خبر ابن سيرين رمزاً إليها بقوله‏:‏ وذكرهم، وقد يقال‏:‏ إن صلاة الجمعة حقيقة شرعية في الصلاة المستوفية للشروط، فمتى قيل‏:‏ إن فلاناً أول من صلى الجمعة كان متضمناً لتحقق الشروط لكن يبعد كل البعد كون ما وقع من أسعد رضي الله تعالى عنه إن كان قبل فرضيتها مستوفياً لما هو معروف اليوم من الشروط، ثم إني لا أدري هل صلى أسعد الظهر ذلك اليوم أم اكتفى بالركعتين اللتين صلاهما عنها‏؟‏ وعلى تقدير الاكتفاء كيف ساغ له ذلك بدون أمره عليه الصلاة والسلام‏؟‏ا وقصارى ما يظن أن الأنصار علموا فرضية الجمعة بمكة وعلموا شروطها وإغناءها عن صلاة الظهر فأرادوا أن يفعلوها قبل أن يؤمروا بخصوصهم فرغب خواصهم عوامهم على أحسن وجه وجاءوا إلى أسعد فصلى بهم وهو خلاف الظاهر جداً فتدبر والله تعالى الموفق‏.‏

وأما ما كان من صلاته عليه الصلاة والسلام إياها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباً على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلى الجمعة وهو أول جمعة صلاها عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم‏:‏ إنما سمي هذا اليوم يوم الجمعة لأن آدم عليه السلام اجتمع فيه مع حواء في الأرض، وقيل‏:‏ لأن خلق آدم عليه السلام جمع فيه وهو نحو ما أخرجه سعيد بن منصور‏.‏

وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قلت‏:‏ «يا نبي الله لأي شيء سمي يوم الجمعة‏؟‏ فقال‏:‏ لأن فيها جمعت طينة أبيكم آدم عليه السلام» الخبر، ويشعر ذلك بأن التسمية كانت قبل كعب بن لؤي ويسميه الملائكة يوم القيامة يوم المزيد لما أن الله تعالى يتجلى فيه لأهل الجنة فيعطيهم ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر كما في حديث رواه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعاً وهو من أفضل الأيام، وفي خبر رواه كثيرون منهم الإمام أحمد‏.‏ وابن ماجه عن أبي لبابة بن عبد المنذر مرفوعاً «يوم الجمعة سيد الأيام وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى» وفيه أن فيه خلق آدم‏.‏ وإهباطه إلى الأرض‏.‏ وموته‏.‏ وساعة الإجابة أي للدعاء ما لم يكن سؤال حرام‏.‏ وقيام الساعة، وفي خبر الطبراني «وفيه دخل الجنة‏.‏ وفيه خرج»‏.‏ وصحح ابن حبان خبر «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة» وفي خبر مسلم «فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس» وصح خبر «وفيه تيب عليه وفيه مات»‏.‏

وأخذ أحمد من خبري مسلم‏.‏ وابن حبان أنه أفضل حتى من يوم عرفة، وفضل كثير من الحنابلة ليلته على ليلة القدر، قيل‏:‏ ويردهما أن لذينك دلائل خاصة فقدمت، واختلف في تعيين ساعة الإجابة فيه، فعن أبي بردة‏:‏ هي حين يقوم الإمام في الصلاة حتى ينصرف عنها، وعن الحسن‏:‏ هي عند زوال الشمس، وعن الشعبي‏:‏ هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، وعن عائشة‏:‏ هي حين ينادي المنادي بالصلاة، وفي حديث مرفوع أخرجه ابن أبي شيبة عن كثير بن عبد الله المزني‏:‏ هي حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها، وعن أبي أمامة لأني لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى هذه الساعات‏:‏ إذا أذن المؤذن‏.‏ أو جلس الإمام على المنبر‏.‏ أو عند الإقامة، وعن طاوس‏.‏ ومجاهد‏:‏ هي بعد العصر، وقيل‏:‏ غير ذلك، ولم يصح تعيين الأكثرين، وقد أخفاها الله تعالى كما أخفى سبحانه الاسم الأعظم‏.‏ وليلة القدر‏.‏ وغيرهما لحكمة لا تخفى‏.‏

‏{‏فاسعوا إلى ذِكْرِ الله‏}‏ أي امشوا إليه بدون إفراط في السرعة، وجاء في الحديث مقابلة السعي بالمشي، وجعل ذلك من خصائص الجمعة، فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ‏"‏ والمراد بذكر الله الخطبة والصلاة، واستظهر أن المراد به الصلاة، وجوز كون المراد به الخطبة وهو على ما قيل مجاز من إطلاق البعض على الكل كإطلاقه على الصلاة، أو لأنها كالمحل له، وقيل‏:‏ الذكر عام يشمل الخطبة المعروفة ونحو التسبيحة، واستدلوا بالآية لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على أنه يكفي في خطبة الجمعة التي هي شرط لصحتها الذكر مطلقاً ولا يشترط الطويل وأقله قدر التشهد كما اشترطه صاحباه، وبينوا ذلك بأنه تعالى ذكر الذكر من غير فصل بين كونه ذكراً طويلاً يسمى خطبة أو ذكراً لا يسمى خطبة فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع غير أن المأثور عنه صلى الله عليه وسلم اختيار أحد الفردين وهو الذكر المسمى بالخطبة والمواظبة عليه فكان ذلك واجباً أو سنة لا أنه الشرط الذي لا يجزىء غيره إذ لا يكون بياناً لعدم الإجمال في لفظ الذكر، والشافعية يشترطون خطبتين‏:‏ ولهما أركان عندهم، واستدلوا على ذلك بالآثار، وأياً مّا كان فالأمر بالسعي للوجوب‏.‏

واستدل بذلك على فرضية الجمعة حيث رتب فيها الأمر بالسعي لذكر الله تعالى على النداء للصلاة فإن أريد به الصلاة أو هي والخطبة فظاهر، وكذلك إن أريد به الخطبة لأن افتراض السعي إلى الشرط وهو المقصود لغيره فرع افتراض ذلك الغير، ألا ترى أن من لم تجب عليه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى الجمعة بالإجماع‏؟‏ وكذا ثبتت فرضيتها بالسنة والإجماع، وقد صرح بعض الحنفية بأنها آكد فرضية من الظهر وبإكفار جاحدها وهي فرض عين، وقيل‏:‏ كفاية وهو شاذ، وفي حديث رواه أبو داود‏.‏ وقال النووي‏:‏ على شرط الشيخين ‏"‏ الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة‏:‏ مملوك، أو امرأة‏.‏ أو صبي‏.‏ أو مريض ‏"‏‏.‏

وأجمعوا على اشتراط العدد فيها لهذا الخبر وغيره، وقول القاشاني‏:‏ تصح بواحد لا يعتد به كما في «شرح المهذب» لكنهم اختلفوا في مقداره على أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنه اثنان أحدهما الإمام وهو قول النخعي‏.‏ والحسن بن صالح‏.‏ وداود الثاني‏:‏ ثلاثة أحدهم الإمام وحكي عن الأوزاعي‏.‏ وأبي ثور‏.‏ وعن أبي يوسف‏.‏ ومحمد‏.‏ وحكاه الرافعي‏.‏ وغيره عن قول الشافعي القديم الثالث‏:‏ أربعة أحدهم الإمام وبه قال أبو حنيفة‏.‏ والثوري‏.‏ والليث‏.‏ وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي‏.‏ وأبي ثور واختاره، وحكاه في شرح المهذب عن محمد، وحكاه صاحب التلخيص قولاً للشافعي في القديم الرابع‏:‏ سبعة حكي عن عكرمة الخامس‏:‏ تسعة حكي عن ربيعة السادس‏:‏ اثني عشر في رواية عن ربيعة‏.‏

وحكاه الماوردي عن محمد‏.‏ والزهري‏.‏ والأوزاعي السابع‏:‏ ثلاثة عشر أحدهم الإمام حكي عن إسحاق بن راهويه الثامن‏:‏ عشرون رواه ابن حبيب عن مالك التاسع‏:‏ ثلاثون في رواية عن مالك العاشر‏:‏ أربعون أحدهم الإمام وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة‏.‏ والإمام الشافعي في الجديد، وهو المشهور عن الإمام أحمد، وأحد القولين المرويين عن عمر بن عبد العزيز الحادي عشر‏:‏ خمسون في الرواية الأخرى عنه الثاني عشر‏:‏ ثمانون حكاه المازري الثالث عشر‏:‏ جمع كثير بغير قيد وهو مذهب مالك فقد اشتهر أنه قال‏:‏ لا يشترط عدد معين بل تشترط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع، ولا تنعقد بالثلاثة‏.‏ والأربعة ونحوهم‏.‏

قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري‏:‏ ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل، وأنا أقول أرجحها مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد رجحه المزني وهو من كبار الآخذين عن الشافعي وهو اختيار الجلال السيوطي، ووجه اختياره مع ذكر أدلة أكثر الأقوال بما لها وعليها مذكور في رسالة له سماها ضوء الشمعة في عدد الجمعة، ولولا مزيد التطويل لذكرنا خلاصتها‏.‏ ومن أراد ذلك فليرجع إليها ليظهر له بنورها حقيقة الحال‏.‏

وقرأ كثير من الصحابة‏.‏ والتابعين فامضوا وحملت على التفسير بناءاً على أنه لا يراد بالسعي الإسراع في المشي ولم تجعل قرآناً لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه ‏{‏وَذَرُواْ البيع‏}‏ أي واتركوا المعاملة على أن البيع مجاز عن ذلك فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات، أو هو دال على ما عداه بدلالة النص ولعله الأولى، والأمر للوجوب فيحرم كل ذلك بل روي عن عطاء حرمة اللهو المباح وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتاباً أيضاً‏.‏

وعبر بعضهم بالكراهة وحملت على كراهة التحريم، وقول الأكمل في شرح المنار‏:‏ إن الكراهة تنزيهية مردود وكأنه مأخوذ من زعم القاضي الاسبيجابي أن الأمر في الآية للندب وهو زعم باطل عند أكثر الأئمة، وعامة العلماء على صحة البيع، وإن حرم نظير ما قالوا في الصلاة بالثوب المغصوب أو في الأرض المغصوبة‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ هو فاسد، وعبر مجاهد بقوله‏:‏ مردود ويستمر زمن الحرمة إلى فراغ الإمام من الصلاة، وأوله إما وقت أذان الخطبة وروي عن الزهري، وقال به جمع وأما أول وقت الزوال وروي ذلك عن عطاء‏.‏ والضحاك‏.‏ والحسن والظاهر أن المأمورين بترك البيع هم المأمورون بالسعي إلى الصلاة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم دخل على أهله يوم الجمعة وعندهم عطار يبايعونه فاشتروا منه وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد الإمام قد خرج فلما رجع أمرهم أن يناقضوه البيع، وظاهره حرمة البيع إذا نودي للصلاة على غير من تجب عليه أيضاً، والظاهر حرمة البيع والشراء حالة السعي‏.‏

وصرح في السراج الوهاج بعدمها إذا لم يشغله ذلك ‏{‏ذلكم‏}‏ أي المذكور من السعي إلى ذكر الله تعالى وترك البيع ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ أنفع من مباشرة البيع فإن نفع الآخرة أجل وأبقى، وقيل‏:‏ أنفع من ذلك ومن ترك السعي، وثبوت أصل النفع للمفضل عليه باعتبار أنه نفع دنيوي لا يدل على كون الأمر للندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب كما لا يخفى ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ الخير والشر الحقيقيين، أو إن كنتم من أهل العلم على تنزيل الفعل منزلة اللام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة‏}‏ أي أديت وفرغ منها ‏{‏فانتشروا فِى الارض‏}‏ لإقامة مصالحكم ‏{‏وابتغوا مِن فَضْلِ الله‏}‏ أي الربح على ما قيل، وقال مكحول‏.‏ والحسن‏.‏ وابن المسيب‏:‏ المأمور بابتغائه هو العلم‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لم يؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله تعالى، وأخرج نحوه ابن جرير عن أنس مرفوعاً، والأمر للإباحة على الأصح فيباح بعد قضاء الصلاة الجلوس في المسجد ولا يجب الخروج، وروي ذلك عن الضحاك‏.‏ ومجاهد‏.‏

وحكى الكرماني في شرح البخاري الاتفاق على ذلك وفيه نظر، فقد حكى السرخسي القول بأنه للوجوب، وقيل‏:‏ هو للندب، وأخرج أبو عبيد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه عن عبد الله بن بسر الحراني قال‏:‏ رأيت عبد الله بن بسر المازني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل له‏:‏ لأي شيء تصنع هذا‏؟‏ قال‏:‏ إني رأيت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة‏}‏ الخ‏.‏

وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال‏:‏ إذا انصرفت يوم الجمعة فأخرج إلى باب المسجد فساوم بالشيء وإن لم تشتره، ونقل عنه القول بالندبية وهو الأقرب والأوفق بقوله تعالى‏:‏

‏{‏واذكروا الله كَثِيراً‏}‏ أي ذكراً كثيراً ولا تخصوا ذكره عز وجل بالصلاة ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ كي تفوزوا بخير الدارين، ومما ذكرنا يعلم ضعف الاستدلال بما هنا على أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، واستدل بالآية على تقديم الخطبة على الصلاة وكذا على عدم ندب صلاة سنتها البعدية في المسجد، ولا دلالة فيها على نفي سنة بعدية لها، وظاهر كلام بعض الأجلة أن من الناس من نفى أن للجمعة سنة مطلقاً فيحتمل على بعد أن يكون استشعر نفي السنة البعدية من الأمر بالانتشار وابتغاء الفضل، وأما نفي القبلية فقد استند فيه إلى ما روي في الصحيح وقد تقدم من أن النداء كان على عهده عليه الصلاة والسلام إذا جلس على المنبر إذ من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام إذا كمل الأذان أخذ في الخطبة وإذا أتمها أخذ في الصلاة، فمتى كانوا يصلون السنة‏؟‏ وأجيب عن هذا بأن خروجه عليه الصلاة والسلام كان بعد الزوال بالضرورة فيجوز كونه بعد ما كان يصلي الأربع، ويجب الحكم بوقوع الحكم بهذا المجوز لعموم ما صح من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إذا زالت الشمس أربعاً، وكذا يجب في حقهم لأنهم أيضاً يعلمون الزوال كالمؤذن بل ربما يعلمونه بدخول الوقت ليؤذن، واستدل بقوله تعالى‏:‏

‏{‏إِذَا نُودِىَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ الخ من قال‏:‏ إنما يجب إتيان الجمعة من مكان يسمع فيه النداء، والمسألة خلافية فقال ابن عمر‏.‏ وأبو هريرة‏.‏ ويونس‏.‏ والزهري‏:‏ يجب إتيانها من ستة أميال، وقيل‏:‏ من خمسة، وقال ربيعة‏:‏ من أربعة، وروي ذلك عن الزهري‏.‏ وابن المنكدر‏.‏

وقال مالك‏.‏ والليث‏:‏ من ثلاثة، وفي بحر أبي حيان‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ يجب الإتيان على من في المصر سمع النداء أو لم يسمع لا على من هو خارج المصر وإن سمع النداء؛ وعن ابن عمر‏.‏ وابن المسيب‏.‏ والزهري‏.‏ وأحمد‏.‏ وإسحاق على من سمع النداء، وعن ربيعة على من إذا سمع وخرج من بيته ماشياً أدرك الصلاة، وكذا استدل بذلك من قال بوجوب الإتيان إليها سواء كان إذن عام أم لا، وسواء أقامها سلطان‏.‏ أو نائبه‏.‏ أو غيرهما أم لا لأنه تعالى إنما رتب وجوب السعي على النداء مطلقاً كذا قيل، وتحقيق الكلام على ذلك كله في كتب الفروع المطولة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا‏}‏ أخرج الإمام أحمد‏.‏ والبخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وجماعة عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وعمر فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة‏}‏ إلى آخر السورة، وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أنه بقي في المسجد اثنا عشر رجلاً وسبع نسوة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم ناراً ‏"‏ وفي رواية عن قتادة ‏"‏ والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أو لكم لالتهب الوادي عليكم ناراً ‏"‏ وقيل‏:‏ لم يبق إلا أحد عشر رجلاً، وهم على ما قال أبو بكر‏:‏ غالب بن عطية العشرة المبشرة‏.‏ وعمار في رواية‏.‏ وابن مسعود في أخرى، وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضاً منهم‏.‏ وعدوا بلالا‏.‏ وجابراً لكلامه السابق، ومنهم من لم يذكر جابراً وذكر بلالاً‏.‏ وابن مسعود‏.‏ ومنهم من ذكر عماراً بدل ابن مسعود، وقيل‏:‏ لم يبق إلا ثمانية، وقيل‏:‏ بقي أربعون، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى تحمل طعاماً، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر‏.‏

وأخرج أبو داود في مرسيله عن مقاتل بن حيان قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال‏:‏ إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنوا إلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ‏}‏ الخ فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة، ولا أظن صحة هذا الخبر، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل مقدماً خطبتها عليها، وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه، ولم أر أحداً من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك، نعم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كون الخطبة قبلها والله تعالى أعلم، والآية لما كانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا‏:‏ إن ‏{‏إِذَا‏}‏ فيها قد خرجت عن الاستقبال واستعملت للماضي كما في قوله‏:‏ وندمان تزيد الكاس طيبا *** سقيت «ذا» تغورت النجوم

ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود، فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه، أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموماً فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه‏؟‏ا وقيل‏:‏ الضمير للرؤية المفهومة من ‏{‏رَأَوْاْ‏}‏ وهو خلاف الظاهر المتبادر، وقيل‏:‏ في الكلام تقدير، والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضير لكل منهما بل يكفي الرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة، وقال الطيبي‏:‏ يمكن أن يقال‏:‏ إن ‏{‏أَوْ‏}‏ في ‏{‏أَوْ لَهْواً‏}‏ مثلها في قوله

‏:‏ بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها «أو» أنت في العين أملح

فقال الجوهري‏:‏ يريد بل أنت فالضمير في ‏{‏إِلَيْهَا‏}‏ راجع إلى اللهو باعتبار المعنى، والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عدت لهواً، وتعدّ فضلاً إن لم تشغله كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الارض وابتغوا مِن فَضْلِ الله‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏ انتهى وليس بشيء كما لا يخفى‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة إليه بضمير اللهو، وقرىء إليهما بضمير الاثنين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏ وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر، والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما فيل به في الآية التي ذكرناها ‏{‏وَتَرَكُوكَ قَائِماً‏}‏ أي على المنبر‏.‏

واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد سننها، وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه، وأخرج ابن ماجه‏.‏ وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً‏؟‏ فقال‏:‏ أما تقرأ ‏{‏وَتَرَكُوكَ قَائِماً‏}‏‏؟‏ وكذا سئل ابن سيرين‏.‏ وأبو عبيدة، وأجابا بذلك، وأول من خطب جالساً معاوية‏.‏

ولعل ذلك لعجزه عن القيام، وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب خطبتين يجلس بينهما، وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله تعالى عنه، وكأنه أراد بالاستراحة غير الجلوس بين الخطبتين إذ ذاك ما كان عليه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وعمر رضي الله تعالى عنهما ‏{‏قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة‏}‏ فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع، فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم، ونفع التجارة ليس بمخلد، وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم بل لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم، وقال ابن عطية‏:‏ قدمت التجارة على اللهو في الروية لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين، وهو قريب مما ذكرنا‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ قدم ما كان مؤخراً وكرر الجار لإرادة الاطلاق في كل واحد، واستقلاله فيما قصد منه ليخالف السابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة، واستدل الشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضى لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة، وأنت تعلم أن ذلك مبني على الزعم والتوهم، وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية، والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعف من خصر شادت يدور على محور الغنج في مقابلتهم، ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها، ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاططياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصاً من ربقة الرق، فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله تعالى المالك ‏{‏والله خَيْرُ الرزقين‏}‏ فإليه سبحانه اسعوا ومنه عز وجل اطلبوا الرزق‏.‏

واستدل بما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في حماعة الجمعة بأنه اثنا عشر بناءاً على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الانفضاض كانوا كذلك، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف، وفيه أن ذلك وإن كان دالاً على صحتها باثني عشر رجلاً بلا شبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر، وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلاً وتمت بهم الجمعة، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف‏:‏ فعند أبي حنيفة إن بقي وحده، أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع، وعند صاحبيه إذا كبروهم معه معي فيها، وعند زفر إذا نفروا قبل القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداءاً فلا بد من دوامه كالوقت، ولهما أنه شرط الانعقاد فلا يشترط دوامه كالخطبة، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها‏.‏

وقال جمهور الشافعي‏:‏ إن انفض الأربعون، أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمونها ظهراً لنحو ما قال زفر، وفي قول‏:‏ لا يضر إن بقي إثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله‏.‏

وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أن ذلك قد وقع مراراً منهم، وفيه إن كبار الصحابة كأبي بكر‏.‏ وعمر‏.‏ وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً إن أريد بها رواية البيهفي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال‏:‏ بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأني بذلك‏؟‏ا وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر‏.‏

هذا ومن باب الإشارة‏:‏ على ما قيل في الآيات‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى بَعَثَ فِى الاميين رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏ إشارة إلى عظيم قدرته عز وجل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية، ومنه قالوا‏:‏ إن الولي يجوز أن يكون أمياً كالشيخ معروف الكرخي على ما قال ابن الجوزي وعنده من العلوم اللدنية ما تقصر عنها العقول، وقال العز بن عبد السلام‏:‏ قد يكون الإنسان عالماً بالله تعالى ذا يقين وليس عنده علم من فروض الكفايات، وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن في علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة، ومن انقطع إلى الله عز وجل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لادراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية، فالولاية لا تتوقف قطعاً على معرفة العلوم الرسمية كالنحو‏.‏ والمعاني‏.‏ والبيان‏.‏ وغير ذلك، ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك، ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من الأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا، وقد رأيت منهم من يقول وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدلا إلا فقلت له‏:‏ منذ كم تقول هكذا‏؟‏ فقال‏:‏ من صغرى إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد، ولا أظن ثباته على ذلك، وخبر

«لا يتخذ الله ولياً جاهلاً ولو اتخذه لعلمه» ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام‏.‏ ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا‏.‏

وذكر بعضهم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُزَكّيهِمْ‏}‏ بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته‏}‏ إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء المرشدين‏:‏ فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة النقشبندية، وقالوا‏:‏ بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلاً يعول عليه عن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه رضي الله تعالى عنهم، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلاً لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر، ولولا خوف الأطناب لذكرتها مع ما فيها، ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين‏:‏ التوجه‏.‏ والرابطة، وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز وجل، وأيضاً لا أدعى الجزم بعدم دليل في نفس الأمر، وفوق كل ذي علم عليم، ولعل أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه، أو يقال‏:‏ يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم وإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَءاخَرِينَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏ الخ بناءاً على عطفه على الضمير المنصوب قيل‏:‏ إشارة إلى عدم انقطاع فيضه صلى الله عليه وسلم عن أمته إلى يوم القيامة؛ وقد قالوا بعدم انقطاع فيض الولي أيضاً بعد انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء‏:‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏ الخ إشارة إلى سوء حال المنكرين مع علمهم، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأهل أَيُّهَا الذين هَادُواْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 6‏]‏ الآية إشارة إلى جواز امتحان مدعى الولاية ليظهر حاله بالامتحان فعند ذلك يكرم أو يهان، وفي عتاب الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذا صدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الاعتساف، وفي الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات، «ومن عمل بما علم أورثه الله عز وجل علم ما لم يعلم»‏.‏

‏[‏سورة المنافقون‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا جَاءكَ المنافقون‏}‏ أي حضروا مجلسك، والمراد بهم عبد الله بن أبي وأصحابه ‏{‏قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله‏}‏ التأكيد بأن واللام للازم فائدة الخبر وهو علمهم بهذا الخبر المشهود به فيفيد تأكيد الشهادة، ويدل على ادعائهم فيها المواطأة وإن كانت في نفسها تقع على الحق والزور والتأكيد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ‏}‏ لمزيد الاعتناء حقيقة بشأن الخبر، أو ليس إلا ليوافق صنيعهم، وجيء بالجلمة اعتراضاً لاماطة ما عسى أن يتوهم من قوله عز وجل‏:‏

‏{‏والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون‏}‏ من رجوع التكذيب إلى نفس الخبر المشهود به من أول الأمر، وذكر الطيبي أن هذا نوع من التتميم لطيف المسلك، ونظيره قول أبي الطيب‏:‏ وتحتقر الدنيا احتقار مجرب *** ترى كل ما فيها وحاشاك فانياً

فالتكذيب راجع إلى ‏{‏نَشْهَدُ‏}‏ باعتبار الخبر الضمني الذي دل عليه التأكيد وهو دعوى المواطأة في الشهادة أي والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوه قولهم‏:‏ ‏{‏نَشْهَدُ‏}‏ من دعوى المواطأة وتوافق اللسان والقلب في هذه الشهادة، وقد يقال‏:‏ الشهادة خبر خاص وهو ما وافق فيه اللسان القلب، وأما شهادة الزور فتجوز كإطلاق البيع على غير الصحيح فهم كاذبون في قولهم‏:‏ ‏{‏نَشْهَدُ‏}‏ المتفرع على تسمية قولهم ذلك شهادة، وهو مراد من قال‏:‏ أي لكاذبون في تسميتهم ذلك شهادة فلا تغفل‏.‏

وعلى هذا لا يحتاج في تحقق كذبهم إلى ادعائهم المواطأة ضمناً لأن اللفظ موضوع للمواطىء، وجوز أن يكون التكذيب راجعاً إلى قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَرَسُولُ الله‏}‏ باعتبار لازم فائدة الخبر وهو بمعنى رجوعه إلى الخبر الضمني‏.‏ وأن يكون راجعاً إليه باعتبار ما عندهم أي لكاذبون في قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَرَسُولُ الله‏}‏ عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أنه كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه، قيل‏:‏ وعلى هذا الكذب هو الشرعي اللاحق به الذم ألا ترى أن المجتهدين لا ينسبون إلى الكذب وإن نسبوا إلى الخطأ‏.‏

وجوز العلامة الثاني أن يكون التكذيب راجعاً إلى حلف المنافقين، وزعموا أنهم لم يقولوا ‏{‏لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ حتى يَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِهِمْ وَلَئِنِ رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل‏}‏ لما ذكر في صحيح البخاري عن زيد بن أرقم أنه قال‏:‏ كنت في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول يقول‏:‏ لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكره لنبي الله صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدّثته فأرسل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن أبي‏.‏

وأصحابه فخلفوا أنهم ما قالوا‏:‏ فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي‏:‏ ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله ‏{‏إِذَا جَاءكَ المنافقون‏}‏ فبعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فقال‏:‏ «إن الله صدقك يا زيد»‏.‏

وجوز بعض الأفاضل أن يكون المعنى إن المنافقين شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذا الخبر، وأياً مّا كان فلا يتم للنظام الاستدلال بالآية على أن صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان ذلك الاعتقاد خطأ وكذبه عدمها، وإظهار المنافقين في موقع الإضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم والكلام في ‏{‏إِذَا‏}‏ على نحو ما مر آنفاً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏اتخذوا أيمانهم‏}‏ أي الكاذبة على ما يشير إليه الإضافة ‏{‏جَنَّةُ‏}‏ أي وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل أو السبي أو غير ذلك قال قتادة‏:‏ كلما ظهر على شيء منهم يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم، وهذا كلام مستقل تعداداً لقبائحهم وأنهم من عادتهم الاستجنان بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة، ويجوز أن يراد بأيمانهم شهادتهم السابقة؛ والشهادة‏.‏ وأفعال العلم واليقين أجرتها العرب مجرى القسم؛ وتلقتها بما يتلقى القسم، ويؤكد بها الكلام كما يؤكد به، فلهذا يطلق عليها اليمين، وبهذا استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين، واعترضه ابن المنير بأن غاية ما في الآية أنه سمي يميناً، والكلام في وجوب الكفارة بذلك لا في إطلاق الاسم، وليس كل ما يسمى يميناً تجب فيه الكفارة، فلو قال‏:‏ أحلف على كذا لا تجب عليه الكفارة وإن كان حلفاً، والجمع باعتبار تعدد القائلين، والكلام على هذا استئناف يدل على فائدة قولهم ذلك عندهم مع الذم البالغ بما عقبه، وقيل‏:‏ إن ‏{‏اتخذوا‏}‏ جواب ‏{‏إِذَا‏}‏ وجملة ‏{‏قَالُواْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ السابقة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه وهو خلاف الظاهر، وأبعد منه جعل الجملة حالا وتقدير جواب لا ذا وقال الضحاك‏:‏ أي اتخذوا حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة عن القتل‏.‏ أو السبي‏.‏ أو نحوهما مما يعامل به الكفار‏.‏ ومن هنا أخذ الشاعر قوله‏:‏ وما انتسبوا إلى الإسلام إلا *** لصون دمائهم أن لا تسالا

وعن السدى أنهم اتخذوا ذلك جنة من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا، وهو كما ترى وكذا ما قبله‏.‏

‏{‏فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي من أراد الدخول في دين الإسلام؛ أو من أراد فعل طاعة مطلقاً على أن الفعل متعد، والمفعول محذوف، أو أعرضوا عن الإسلام حقيقة على أن الفعل لازم، وأياً مّا كان فالمراد على ما قيل‏:‏ استمرارهم على ذلك، وحمل بعض الأجلة الأيمان على ما يعم ما حكى عنهم من الشهادة، ثم قال‏:‏ واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا عن المؤاخدة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة، وعن سببها أيضاً كما يفصح عنه الفاء في ‏{‏فَصَدُّواْ‏}‏ أي من أراد الإسلام أو الانفاق كما سيحكي عنهم، ولا ريب في أن هذا الصد متقدم على حلفهم، وقرىء أي قرأ الحسن دإيمانهم‏}‏ بكسر الهمزة أي الذي أظهروه على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم، فمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏}‏ بكسر الهمزة أي الذي أظهروه على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم، فمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَصَدُّواْ‏}‏ فاستمروا على ما كانوا عليه من الصدود والاعراض عن سبيله تعالى انتهى، وفيه ما يعرف بالتأمل فتأمل ‏{‏إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ من النفاق وما يتبعه، وقد مر الكلام في ‏{‏سَاء‏}‏ غير مرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما تقدم من القول الناعي عليهم أنهم أسوأ الناس أعمالاً‏.‏ أو إلى ما ذكر من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالايمان الفاجرة‏.‏ أو الإيمان الصوري، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مراراً من الاشعار في مثل هذا المقام ببعد منزلته في الشر، وجوز ابن عطية كونه إشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى ساء عملهم ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ أي بسبب أنهم ‏{‏ءامَنُواْ‏}‏ أي نطقوا بكلمة الشهادة كسائر من يدخل في الإسلام ‏{‏ثُمَّ كَفَرُواْ‏}‏ ظهر كفرهم وتبين بما اطلع عليه من قولهم‏:‏ إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك‏:‏ أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى‏.‏ وقيصر هيهات، وغير ذلك، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ على ظاهرها، أو لاستبعاد ما بين الحالين أو ثم أسروا الكفر فثم للاستبعاد لا غير، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاءاً بالإسلام، وقيل‏:‏ الآية في أهل الردة منهم‏.‏

‏{‏فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ‏}‏ حتى يموتوا على الكفر ‏{‏فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ حقيقة الإيمان أصلاً‏.‏

وقرأ زيد بن علي ‏{‏فَطُبِعَ‏}‏ بالبناء للفاعل وهو ضميره تعالى، وجوز أن يكون ضميراً يعود على المصدرالمفهوم مما قبل أي فطبع هو أي تلعابهم بالدين، وفي رواية أنه قرأ فطبع الله مصرحاً بالاسم الجليل، وكذا قرأ الأعمش‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم‏}‏ لصباحتها وتناسب أعضائها ‏{‏وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏}‏ لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم، وكان ابن أبيّ جسيما فصيحاً يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أمثاله كالجد بن قيس‏.‏ ومعتب بن قشير فكان عليه الصلاة والسلام ومن معه يعجبون من هياكلهم ويسمعون لكلامهم، والخطاب قيل‏:‏ لكل من يصلح له وأيد بقراءة عكرمة‏.‏ وعطية العوفي يسمع بالياء التحتية والبناء للمفعول، وقيل‏:‏ لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، وهذا أبلغ على ما في الكشف لأن أجسامهم إذا أعجبته صلى الله عليه وسلم فأولى أن تعجب غيره؛ وكذا السماع لقولهم، وليوافق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءكَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ والسماع مضمن معنى الإصغاء فليست اللام زائدة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ‏}‏ كلام مستأنف لذمهم لا محل له من الاعراب؛ وجوز أن يكون في حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم كأنهم الخ؛ والكلام مستأنف أيضاً، وأنت تعلم أن الكلام صالح للاستئناف من غير تقدير فلا حاجة إليه، وقيل‏:‏ هو في حيز النصب على الحال من الضمير المجرور في ‏{‏لِقَوْلِهِمْ‏}‏ أي تسمع لما يقولون مشبهين بخشب مسندة كما في قوله‏:‏

فقلت‏:‏ عسى أن تبصريني كأنما *** بنى حوالي الأسود الحوادر

وتعقب بأن الحالية تفيد أن السماع لقولهم لأنهم كالخشب المسندة وليس كذلك، و‏{‏خُشُبٌ‏}‏ جمع خشبة كثمرة وثمر، والمراد به ما هو المعروف شبهوا في جلوسهم مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين فيها وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحاً خالية عن الفائدة لأن الخشب تكون مسندة إذا لم تكن في بناء أو دعامة بشيء آخر، وجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم، وفي مثلهم قال الشاعر‏:‏

لا يخدعنك اللحى ولا الصور *** تسعة أعشار من ترى بقر

تراهم كالسحاب منتشرا *** وليس فيها لطالب مطر

في شجر السرو منهم شبه *** له رواء وماله ثمر

وقرأ البراء بن عازب‏.‏ والنحويان‏.‏ وابن كثير ‏{‏خُشُبٌ‏}‏ بإسكان الشين تخفيف خشب المضمون، ونظيره بدنة وبدن‏.‏ وقيل‏:‏ جمع خشباء‏.‏ كحمر‏.‏ وحمراء، وهي الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم لنفاقهم، وعن اليزيدي حمل قراءة الجمهور بالضم على ذلك، وتعقب بأن فعلاء لا يجمع على فعل بضمتين، ومنه يعلم ضعف القيل إذ الأصل توافق القراآت‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ وابن المسيب‏.‏ وابن جبير ‏{‏خُشُبٌ‏}‏ بفتحتين كمدرة ومدر وهو اسم جنس على ما في البحر، ووصفه بالمؤنث كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم وهلعهم فكانوا كما قال مقاتل‏:‏ متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان طارت عقولهم وظنوا ذلك إيقاعاً بهم، وقيل‏:‏ كانوا على وجل من أن ينزل الله عز وجل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم؛ ومنه أخذ جرير قوله يخاطب الأخطل‏:‏

مازلت تحسب كل شيء بعدهم *** خيلا تكر عليهم ورجالا

وكذا المتنبي قوله‏:‏

وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم *** إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

والوقف على ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ الواقع مفعولاً ثانياً ليحسبون وهو وقف تام كما في الكواشي، وعليه كلام الواحدي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمُ العدو‏}‏ استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المداجى الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوى ككثير من أبناء الزمان ‏{‏فاحذرهم‏}‏ لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترن بظاهرهم، وجوز الزمخشري كون ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ صلة ‏{‏صَيْحَةٍ‏}‏ و‏{‏هُمُ العدو‏}‏ والمفعول الثاني ليحسبون كما لو طرح الضمير على معنى أنهم يحسبون الصيحة نفس العدو، وكان الظاهر عليه هو أو هي العدو لكنه أتى بضمير العقلاء المجموع لمراعاة معنى الخبر أعني العدو بناءاً على أنه يكون جمعاً ومفرداً وهو هنا جمع، وفيه أنه تخريج متكلف بعيد جداً لا حاجة إليه وإن كان المعنى عليه لا يخلو عن بلاغة ولطف، ومع ذلك لا بساعد عليه ترتب ‏{‏فاحذرهم‏}‏ لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن ‏{‏قاتلهم الله‏}‏ أي لعنهم وطردهم فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها، وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز وجل وغاية نكاله جل وعلا في الدنيا والآخرة، والكلام دعاء وطلب من ذاته سبحانه أن يلعنهم ويطردهم من رحمته تعالى، وهو من أسلوب التجريد فلا يكون من إقامة الظاهر مقام الضمير لأنه يفوت به نضارة الكلام، أو تعليم للمؤمنين أن يدعو عليهم بذلك فهو على معنى قولوا‏:‏ قاتلهم الله، وجوز أن لا يكونوا من الطلب في شيء بأن يكون المراد أن وقوع اللعن بهم مقرر لا بد منه، وذكر بعضهم أن قاتله الله كلمة ذم وتوبيخ، وتستعملها العرب في موضع التعجب من غير قصد إلى لعن، والمشهور تعقيبها بالتعجب نحو قاتله الله ما أشعره، وكذا قوله سبحانه هنا‏:‏ ‏{‏قاتلهم الله‏}‏‏.‏

‏{‏إِنّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ وهذا تعجيب من حالهم، أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال‏؟‏ فأني ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده، وجوز ابن عطية كونه ظرفاً لقاتلهم وليس هناك استفهام، وتعقبه أبو حيان بأن ‏{‏إِنّى‏}‏ لا تكون لمجرد الظرفية أصلاً، فالقول بذلك باطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ‏}‏ أي عطفوها وهو كناية عن التكبر والاعراض على ما قيل؛ وقيل‏:‏ هو على حقيقته أي حركوها استهزاءاً، وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج ‏{‏وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ‏}‏ يعرضون عن القائل أو عن الاستغفار ‏{‏وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عن ذلك‏.‏

روي أنه لما صدق الله تعالى زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبي مقت الناس ابن أبي ولامه المؤمنون من قومه، وقال بعضهم له‏:‏ امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكاراً لهذا الرأي، وقال لهم‏:‏ لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت، وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أخرجه عبد بن حميد‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏ تب ‏"‏ فجعل يلوي رأسه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ الخ، وفي حديث أخرجه الإمام أحمد‏.‏ والشيخان‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهم عن زيد بعد نقل القصة إلى أن قال‏:‏ حتى أنزل الله تعالى تصديقي في ‏{‏إِذَا جَاءكَ المنافقون‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ ما نصه فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم، فجمع الضمائر‏:‏ إما على ظاهره، وإما من باب بنو تميم قتلوا فلاناً، وإذاً على ما مر، و‏{‏يَسْتَغْفِرِ‏}‏ مجزوم في جواب الأمر، و‏{‏رَسُولِ الله‏}‏ فاعل له، والكلام على ما في «البحر» من باب الأعمال لأن ‏{‏رَسُولِ الله‏}‏ يطلبه عاملان‏:‏ ‏{‏يَسْتَغْفِرِ‏}‏ و‏{‏تَعَالَوْاْ‏}‏ فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله، وجملة ‏{‏يَصِدُّونَ‏}‏ في موضع الحال، وأتت بالمضارع ليدل على الاستمرار التجددي، ومثلها في الحالية جملة ‏{‏هُمْ مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏؛ وقرأ مجاهد‏.‏ ونافع‏.‏ وأهل المدينة‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ والمفضل‏.‏ وأبان عن عاصم‏.‏ والحسن‏.‏ ويعقوب بخلاف عنهما ‏{‏لَوَّوْاْ‏}‏ بتخفيف الواو، والتشديد في قرارة باقي السبعة للتكثير، ولما نعى سبحانه عليهم إباءهم عن الاتيان ليستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم واستكبارهم أشار عز وجل إلى عدم فائدة الاستغفار لهم لما علم سبحانه من سوء استعدادهم واختيارهم بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ فهو للتسوية بين الأمرين الاستغفار لهم وعدمه، والمراد الاخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ‏}‏ وتعليله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين‏}‏ أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح، فإن المغفرة فرع الهداية، والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهم بأعيانهم‏.‏ والإظهار في مقام الاضمار لبيان غلوهم في الفسق؛ والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولاً أولياً، والآية في ابن أبي كسوابقها كما سمعت ولواحقها كما صح وستسمعه قريباً إن شاء الله تعالى، والاستغفار لهم قيل‏:‏ على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين من جناياتهم، وكان ذلك قد اعتبر في جانب الأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الاتيان لا يظهر كونه سبباً للاستغفار، ويومىء إليه قوله صلى الله عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبي‏:‏ «تب» وترك الاستغفار على تقدير الإصرار على القبائح والاستكبار وترك الاعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة والسلام استغفار لهم‏.‏

وحكى مكي أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعدما صدر منهم ما صدر بالتوبة، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت آية براءة ‏{‏استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ الخ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أسمع ربي قد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم ‏"‏ فنزلت هذه الآية ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ‏}‏ الخ‏.‏

وأخرج أيضاً عن عروة نحوه وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورة تدعو لالتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل، ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفاً لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحداً وهو عدم المغفرة لهم مطلقاً، والآية الأولى فيما اختار نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن ابن عباس وهو الأوفق بالسباق، وهذه نزلت في ابن أبي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحة ويجمع الطائفتين النفاق، ولذا قال صلى الله عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم، ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبي كان مريضاً إذ ذاك، ورأيت في خبر أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين ما يشعر بأنه بعد قوله‏:‏ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه، وفيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذهب إليه بشفاعة ولده‏:‏ حاجتي إذا أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية

‏{‏وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏ ولا يشكل الاستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم كأن يموت على ما هو عليه من الكفر والنفاق، وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة، والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

وقرأ أبو جعفر استغفرت بمدة على الهمزة فقيل‏:‏ هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا حَرَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 143‏]‏ لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة، وعنه أيضاً ضم ميم ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ إذ أصلها الضم ووصل الهمزة‏.‏ وروى معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين، ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الاستفهام، وجاء حذف الهمزة ثقة بدلالة ‏{‏أَمْ‏}‏ عليها كما في قوله‏:‏ بسبع رمين الجمر أم بثمان *** وقال الزمخشري‏:‏ قرأ أبو جعفر آستغفرت إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان لا قلباً لهمزة الوصل ألفاً كما في آلسحر‏.‏ وآلله وقال أبو جعفر بن القعقاع‏:‏ بمدة على الهمزة وهي ألف التسوية‏.‏

وقرأ أيضاً بوصل الألف دون همزة على الخبر، وفي ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ‏}‏ استئناف مبين لبعض ما يدل على فسقهم، وجوز أن يكون جارياً مجرى التعليل لعدم مغفرته تعالى لهم وليس بشيء لأن ذاك معلل بما قبل، والقائل رأس المنافقين ابن أبي وسائرهم راضون بذلك، أخرج الترمذي وصححه‏.‏ وجماعة عن زيد بن أرقم قال‏:‏ غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا ناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوضه حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه فإني رجل من الأنصار أعرابياً فأرخى ذمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع حجراً ففاض فرفع الأعرابي خشبة فضرب رأس الأنصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب، وقال‏:‏ ‏{‏لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِهِمْ‏}‏ يعني الأعراب، ثم قال لأصحابه‏:‏ إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل، قال زيد‏:‏ وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله فأخبرت عمي فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام فحلف وجحد وصدقه صلى الله عليه وسلم وكذبني فجاء عمي إلي فقال‏:‏ ما أردت إلي أن مقتك وكذبك المسلمون فوقع على من الهم ما لم يقع على أحد قط فبينا أنا أسير وقد خفضت رأسي من الهم إذا أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ثم إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لحقني فقال‏:‏ ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قلت‏:‏ ما قال لي شيئاً إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال‏:‏ أبشر فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِذَا جَاءكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله‏}‏ حتى بلغ ‏{‏لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1 8‏]‏ وقد تقدم عن البخاري ما يدل على أنه قائل ذلك أيضاً‏.‏

وأخرج الإمام أحمد‏.‏ ومسلم‏.‏ والنسائي نحو ذلك، والأخبار فيه أكثر من أن تحصى؛ وتلك الغزاة التي أشار إليها زيد قال سفيان‏:‏ يرون أنها غزاة بني المصطلق، وفي «الكشاف» خبر طويل في القصة يفهم منه أنهم عنوا بمن عند رسول الله فقراء المهاجرين، والظاهر أن التعبير برسول الله صلى الله عليه وسلم أي بهذا اللفظ وقع منهم ولا يأباه كفرهم لأنهم منافقون مقرون برسالته عليه الصلاة والسلام ظاهراً‏.‏

وجوز أن يكونوا قالوه تهكماً أو لغلبته عليه الصلاة والسلام حتى صار كالعلم لم يقصد منه إلا الذات، ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة فغيرها الله عز وجل إجلالاً لنبيه عليه الصلاة والسلام وإكراماً، والانفضاض التفرق، و‏{‏حتى‏}‏ للتعليل أي لا تنفقوا عليهم كي يتفرقوا عنه عليه الصلاة والسلام ولا يصحبوه‏.‏

وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي ينفضوا من أنفض القوم فنى طعامهم فنفض الرجل وعاءه، والفعل مما يتعدى بغير الهمزة وبالهمزة لا يتعدى، قال في «الكشاف»‏:‏ وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السماء والارض‏}‏ ردّ وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى انفضاضهم عنه عليه الصلاة والسلام ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة يعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء ‏{‏ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ ذلك لجهلهم بالله تعالى وبشؤنه عز وجل، ولذلك يقولون من مقالات الكفرة ما يقولون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل‏}‏ قائله كما سمعت ابن أبي، وعنى بالأعز نفسه أو ومن يلوذ به، وبالأذل من أعزه الله عز وجل وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أو هو عليه الصلاة والسلام والمؤمنون، وإسناد القول المذكور إلى جميعهم لرضاؤهم به كما في سابقه‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ والسبتي في اختياره لنخرجن بالنون، ونصب ‏{‏الاعز‏}‏ على أن ‏{‏لَيُخْرِجَنَّ الاعز‏}‏ مفعول به، و‏{‏الاذل‏}‏ إما حال بناءاً على جواز تعريف الحال، أو زيادة أل فيه نحو أرسلها العراك، وأدخلوا الأول فالأول وهو المشهور في تخريج ذلك، أو حال بتقدير مثل وهو لا يتعرف بالإضافة أي مثل الأذل، أو مفعول به لحال محذوفة أي مشبهاً الأذل، أو مفعول مطلق على أن الأصل إخراج الأذل فحذف المصدر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه‏.‏

وحكى الكسائي‏.‏ والفراء أن قوماً قرأوا ليخرجن بالياء مفتوحة وضم الراء‏.‏ ورفع ‏{‏الاعز‏}‏ على الفاعلية‏.‏ ونصب ‏{‏الاذل‏}‏ على ما تقدم، بيد أنك تقدر على تقدير النصب على المصدرية خروج، وقرىء ليخرجن بالياء مبنياً للمفعول، ورفع ‏{‏الاعز‏}‏ على النيابة عن الفاعل، ونصب ‏{‏الاذل‏}‏ على ما مر‏.‏

وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني لنخرجن بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء، ونصب ‏{‏الاعز‏}‏، وحكى هذه القراءة أبو حاتم، وخرجت على أن نصب ‏{‏لَيُخْرِجَنَّ الاعز‏}‏ على الاختصاص كما في قولهم‏:‏ نحن العرب أقرى الناس للضيف، ونصب ‏{‏الاذل‏}‏ على أحد الأوجه المارة فيما حكاه الكسائي‏.‏ والفراء، والمقصود إظهار التضجر من المؤمنين وأنهم لا يمكنهم أن يساكنوهم في دار كذا قيل‏:‏ وهو كما ترى، ولعل هذه القراءة غير ثابة عن الحسن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ رد لما زعموه ضمناً من عزتهم وذل من نسبوا إليه الذل، وحاشاه منه أي ولله تعالى الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا للغير، ويعلم مما أشرنا إليه توجيه الحصر المستفاد من تقديم الخبر، وقيل‏:‏ إن العطف معتبر قبل نسبة الإسناد فلا ينافي ذلك ولا يضر إعادة الجار لأنها ليست لإفادة الاستقلال في النسبة بل لإفادة تفاوت ثبوت العزة فإن ثبوتها لله تعالى ذاتي وللرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الرسالة وللمؤمنين بواسطة الايمان، وجاء من عدة طرق أن عبد الله بن أبي وكان مخلصاً سل سيفه على أبيه عندما أشرفوا على المدينة فقال‏:‏ والله على أن لا أغمده حتى تقول‏:‏ محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه وقف والناس يدخلون حتى جاء أبوه فقال‏:‏ وراءك، قال‏:‏ ما لك ويلك‏؟‏ا قال‏:‏ والله لا تدخلها أبداً إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتعلمن اليوم الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل؛ وصح من رواية الشيخين‏.‏

والترمذي‏.‏ وغيرهم عن جابر بن عبد الله أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ابن أبي قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» وفي رواية عن قتادة أنه قال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ يا نبي الله مر معاذاً أن يضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم، وفي الآية من الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها، ومن هنا قالت بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة‏:‏ ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغني الذي لا فقر معه‏.‏

وعن الحسن بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام أن رجلاً قال له‏:‏ إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً قال‏:‏ ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية، وأريد بالتيه الكبر، وأشار العز إلى أن العزة غير الكبر، وقد نص على ذلك أبو حفص السهر وردي قدس سره فقال‏:‏ العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها، فالعزة ضد الذلة كما أن الكبر ضد التواضع، وفسر الراغب العزة بحالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم‏:‏ أرض عزاز أي صلبة وتعزز اللحم اشتد كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة وهي بهذا المعنى تثبت للكفرة، وتفسيرها بالقوة والغلبة كما سمعت شائع ولك أن تريد بها هنا الحالة المانعة من المغلوبية فأنها أيضاً ثابتة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على الوجه اللائق بكل‏.‏

‏{‏ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون والفعل هنا منزل منزلة اللازم فلذا لم يقدر له مفعول ولا كذلك الفعل فيما تقدم، وهو ما اختاره غير واحد من الأجلة، وقيل في وجهه‏:‏ إن كون العزة لله عز وجل مستلزم لكون الأرزاق بيده دون العكس فناسب أن يعتبر الأخلاق في الجملة المذيلة لما يفيد كون العزة له سبحانه قصداً للمبالغة والتقييد للجملة المذيلة لما يفيد كون الأرزاق بيده تعالى، ثم قيل‏:‏ خص الجملة الأولى ب

‏{‏لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 7‏]‏ والثانية بـ ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ لأن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه فأوثر ما هو أبلغ لما هو ادعى له‏.‏

وعن الراغب معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 7‏]‏ الخ أنهم يأمرون بالاضرار بالمؤمنين وحبس النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له، ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل، وعندهم أن الأعز من له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله تعالى فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده، ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معز أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه بمخالفتهم أمره عز وجل، فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الإشارة إلى علة الحكم في الموضعين‏.‏